فصل: تفنيد شبهة الوحي النفسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.تفنيد شبهة الوحي النفسي:

والآن وبعد أن بسطت فكرة الماديين والملحدين في الوحي المحمدي وذكرت خلاصة المقدمات التي تذرعوا بها للوصول إلى ما يريدون سأكرّ عليها بالرد العلمي الذي يدعمه العقل السليم، والنقل الصحيح، والتاريخ الصادق، وإذا أبطلنا المقدمات، فقد بطل ما رتبوه عليها قطعا، وهي النتيجة التي ركبوا كل صعب وذلول في سبيلها.
وبعد إبطال المقدمات سأعرض بالرد على المثال الذي ذكروه وهو قصة جان دارك، فأقول وبالله التوفيق والسداد.

.إبطال هذه المقدمات:

.الرد على المقدمة الأولى:

إن المعروف الثابت الذي رواه كتاب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصحب عمه أبا طالب في التجارة إلا مرة، وهو ابن تسع سنين وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وأن الراهب بحيرى لما رآه تظلله سحابة من الشمس، ورأى فيه بعض أمارات النبوة ذكر لعمه أنه سيكون له شأن، وحذره أن تناله اليهود بشرّ، ولم تذكر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع في صغره من بحيرى شيئا، أو تعلم منه شيئا من معارف أهل الكتاب، ولما صار رجلا وتاجر للسيدة خديجة في مالها ذهب إلى بلاد الشام ولم يعرف أنه جاوز مدينة (بصرى) ولا أنه اشتغل في هذه الأسفار بغير التجارة، ولا أنه اتصل بأحبار اليهود، ورهبان النصارى، ولو أنه حدث ما زعموا لنقله إلينا الرواة المسلمون الذين لم يدعوا صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بالسيرة المحمدية إلا ذكروها.
وأما ما زعموه من أن محمدا مر على ديار مدين وتحدث مع أهلها فغير صحيح؛ وأين مدين من طريق تجارتهم إلى الشام وليس من المعقول من مثل النبي، وهو من هو في رجاحة العقل، وقوة الفطنة أن يعتمد في أخبارهم، وأخبار ثمود وغيرهم من الأمم السابقة، على أعراب لا علم عندهم ولا تحقيق، ولم يعرف عن القوافل التجارية أنها كانت تضيع وقتها في البحث عن الأحبار والرهبان، وما كان للنبي وقد ذهب مع قافلة أن يشتزّ عنها ثم يذهب باحثا عن علماء أهل الكتاب، ولو أنه فعل لما تمكن من تصريف تجارته، مع أنه المنقول أنه كان تاجرا أمينا ناجحا، وأنه كان يربح ربحا وافرا، وهذا لن يتأتى في العادة لمن شغل بغير تجارته، ثم لو سلمنا جدلا أنه سمع من أخبار أهل الكتاب، فهل هذه النتف المبعثرة المشوّشة تكوّن هذا القصص الوافي الدقيق على المنهج الذي جاء به القرآن!

.الرد على المقدمة الثانية:

وهي ما زعموه من أن ورقة كان من متنصّرة العرب، وأنه كان قريب خديجة، وأن النبي أخذ منه بعض معارف أهل الكتاب، فقد خلطوا فيه الحق والباطل.
والذي ثبت في الصحيحين: أن ورقة كان من العرب الذين تنصروا في الجاهلية، وكان يعرف العربية والعبرانية، وكان له علم بالكتب السابقة، وأن السيدة خديجة لما أخبرها النبي ما رأى، وما سمع بغار حراء، وجاءها فزعا خائفا أخذته إلى ابن عمها ورقة، فأخبره النبي بما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال له النبي: «أو مخرجيّ هم» قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.
ولم تذكر الروايات أن النبي كانت له صلة به قبل هذا، بل السيدة خديجة هي التي عرّفته به، ولا أنه أخذ عنه شيئا من معارف أهل الكتاب، ولم يعرف عن ورقة أنه كان من دعاة النصرانية المبشرين بها، ثم إنه لم يلبث أن توفي، وهذا هو الصحيح المعتمد.
وما روي من بقاء ورقة حتى شهد الدعوة المحمدية، والصراع بين المسلمين والمشركين، فغير صحيح، وهي رواية شاذة؛ فهل يعقل أن تكون هذه المقابلة الخاطفة ينبوعا لما جاء به الوحي المحمدي!

.الرد على المقدمة الثالثة:

وأمّا ما زعموه من انتشار اليهودية والنصرانية في بلاد العرب، ومن تنصّر بعض فصحاء العرب، وشعرائهم، كقس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصّلت، ودعوتهم إلى التوحيد، وإشادتهم بقرب ظهور النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وتأثر النبي بهم في دعوى النبوة فغير صحيح.
فاليهودية والنصرانية لم تكن منتشرة في بلاد الحجاز، وهي التي بعث منها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بمكة يهود ولا نصارى، وإنما كان اليهود بجوار المدينة المنورة، ومع هذا فلم يكن لهم أثر يذكر في جيرانهم- الأوس والخزرج- بالمدينة، ولم يتهود من العرب إلا القلة، والذين تنصروا من العرب أقل من القليل، وكانت معارفهم كمعارف أهل الكتاب بالمدينة وغيرها من أطراف الجزيرة العربية، كنجران وبلاد الشام مشوشة ملفقة محرّفة، مما لا يعقل معه أن تكون مصدرا لما جاء به سيدنا محمد من أخبار وقصص تتسم بالصدق والحق، وعدم التناقض والاضطراب.
وأما قسّ بن ساعدة فقد مات قبل البعثة، ولم يعرف أنه تنصر، وإنما كان من الحنيفيين الذين دعوا إلى التوحيد بفطرتهم، أو تأثروا بما بقي من شريعة الخليل إبراهيم عليه السلام وما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه قبل البعثة بزمن طويل يخطب الناس في سوق عكاظ على جمل أورق! وأن النبي سرّ بكلامه، قد ضعفه المحدّثون، بل طعن فيها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بالوضع والاختلاق، ولو سلمنا بصحة لقاء النبي له قبل البعثة، فإن ما أثر عن قسّ من كلمات لا تصلح أن تكون ملهمة للنبي بهذه الرسالة التامّة الوافية.
وأما أمية بن أبي الصّلت، فقد كان شاعر ثقيف، وكان من الحنيفيين الذين يدعون إلى التوحيد، وكان علم أنه سيبعث نبي آخر الزمان من بلاد العرب، فترهب وتعبد، ولبس المسوح طمعا في أن ينال النبوة، وقد عاش حتى أدرك النبوة، ولكن استبد به الحقد والغضب أن لم تصادفه النبوة فلم يسلم، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من شعره قال: «وكاد أن يسلم» وقال: «آمن شعره وكفر قلبه».
ولم يثبت قط أنه لقي النبي قبل البعثة ولا بعدها، وإن كان عاش إلى سنة تسع من الهجرة فكيف يعقل أن يكون النبي في نشأته قد أخذ عنه وتأثر بأفكاره.

.الرد على المقدمة الرابعة:

وهي زعمهم أنه كان بمكة أناس من اليهود والنصارى، وكانوا عبيدا وخدما، ويسكنون خارج مكة، وأن النبي اتصل بهم وسمع منهم، فهي أوغل في الكذب من سابقتها، وأبعد من نجوم السماء، ولم يكن بمكة يهود ولا نصارى حتى يتعلم منهم النبي.. ولو وقع ما زعموه لاتخذه أعداؤه من المشركين حجة يحتجون بها عليه، وأن ما يدّعيه من الوحي إنما تعلمه من هؤلاء، فإنهم كانوا يوردون في معرض الحجاج والخصام ما هو أضعف وأوهن من هذه الشبهة، فقد كان بمكة قين- حدّاد- رومي يصنع السيوف وغيرها فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته، فطعنوا في النبي بأنه يتعلم منه، فرد الله عليهم قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
لقد كان ذكر القصص بمكة من أقوى البراهين على صدق النبي، لأن البيئة المكية لم تكن بيئة علم ومعرفة، ولم يكن فيها يهود ولا نصارى بشهادة الواقع التاريخي الصادق، ولو تأخر ذكر القصص إلى ما بعد الهجرة لربما قالوا إنه تعلمه من أهل الكتاب بالمدينة، وإذا ثبت أن النبي كان أمّيّا، وانتفى أخذه عن أهل الكتاب، فقد تعين أن يكون من عند الله سبحانه وصدق الله حيث يقول: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
وكثيرا ما نبّه الله عز شأنه إلى ما في القصص من دلائل على صدق النبي في دعوته بعد ذكر شيء منها؛ قال سبحانه بعد ذكر قصة موسى في مدين من سورة القصص: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص 44- 45]، وقال بعد قصة نوح من سورة هود: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، وقال في آخر سورة يوسف: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
وتأمل في قوله سبحانه: {وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} فإنها ترد على هذا الافتراء المكشوف.